روى الإمام البخاري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال : جعل رزقي تحت ظل رمحي . مسند أحمد بن حنبل (2/92).
والنفس تفهم من هذا الحديث الكريم معنى ترجو أن يكون صوابا من الله : وإلا فالخطأ منها ومن الشيطان ، أن الحق لا بد له من قوة تحرسه وتصونه ، وإلا ضاع تحت جبروت الباطل ، والعامة تقول : المال السايب يعلم السرقة وكذلك قيل : من لم يتذأب أكلته الذئاب .
فرزق المسلم وهو يتمثل في داره وعقاره ، وسكنه ووطنه ، وزرعه وضرعه ، وكل ما يحوزه ويملكه - يجب أن يكون محروسا بعدته وعتاده ، مستظلا بسلاحه ورماحه ، ومن هنا قال الله في القرآن الكريم : " وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ" سورة الأنفال الآية 60
وليست الحرب في الإسلام غاية مقصودة لذاتها ، ولكنها خطة يدفع بها بغي الباغين وظلم الظالمين ، ولذلك قال الله تعالى في التنزيل المجيد : "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ " سورة البقرة الآية 190 .
وقال أيضا : " فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
" سورة البقرة الآية 194 .
وصيانة الحق والرزق تستلزم أن يكون أبناء الإسلام دائما على إعداد واستعداد ، وأن تكون طائفة منهم على الدوام في حالة رباط ، أو على أرض الميدان ، حتى يظل الجهاد فريضة قائمة باقية ، وصلوات الله وسلامه على رسوله حين مجد شأن المؤمن المجاهد الموصول النضال ، فقال :" خير الناس رجل ممسك بعنان فرسه كلما سمع هيعة طار إليها " سنن الترمذي ـ فضائل الجهاد (1652),سنن النسائي ـ الزكاة (2569),موطأ مالك ـ الجهاد (976),سنن الدارمي ـ الجهاد (2395)..
وهذا : واحد من أبناء الإسلام وأتباع محمد - عليه الصلاة والسلام - يظل أكثر من خمسين عاما يحمل سلاحه ، ويسدد رماحه ، ويذود عن حمى الدين ، ويصون حرمات المسلمين ، ويتقرب بالجهاد إلى الله رب العالمين : إنه البطل القائد ، الأمير الفاتح أبو سعيد مسلمة بن عبد الملك بن مروان بن الحكم القرشي الأموي الدمشقي ، وإليه تنسب جماعة بني مسلمة التي كانت بلدتهم هي الأشمونين وفيها منازلهم ، وهي بلدة بالصعيد الأعلى في مصر غربي نهر النيل .
وكان مسلمة بن عبد الملك من أبطال عصره ، بل من أبطال الإسلام المعدودين ، حتى كانوا يقولون عنه : إنه خالد بن الوليد الثاني ؛ لأنه كان يشبه سيف الله المسلول في شجاعته وكثرة معاركه وحروبه ، ويقول عنه المؤرخ يوسف بن تغري : روى صاحب كتاب النجوم الزاهرة هذه العبارة : كان شجاعا صاحب همة وعزيمة ، وله غزوات كثيرة المرجع السابق . ويقول عنه ابن كثير : "وبالجملة كانت لمسلمة مواقف مشهورة ، ومساع مشكورة ، وغزوات متتالية منثورة ، وقد افتتح حصونا وقلاعا ، وأحيا بعزمه قصورا وبقاعا ، وكان في زمانه في الغزوات نظير خالد بن الوليد في أيامه ، وفي كثرة مغازيه ، وكثرة فتوحه ، وقوة عزمه ، وشدة بأسه ، وجودة تصرفه في نقضه وإبرامه ، وهذا مع الكرم والفصاحة "البداية والنهاية ج9ص328و329 ..
ويقول عنه صاحب العقد الفريد : "ولم يكن لعبد الملك بن أسد رأيا ، ولا أزكي عقلا ، ولا أشجع قلبا ، ولا أسمع نفسا ، ولا أسخى كفا من مسلمة "العقد الفريد ، ج7 ص145 .
ولذلك أوصى عبد الملك بن مروان أولاده ، وفيهم مسلمة ، فكان مما قاله لهم عنه : يا بني ، أخوكم مسلمة ، نابكم الذي تفترون عنه ، ومجنكم الذي تستجنون به ، أصدروا عن رأيه مروج .. الذهب للمسعودي ج3ص161 .
ومع إن إخوة لمسلمة تولوا الخلافة دونه ، ظل هو بينهم النجم المتألق الثاقب بجهاده وكفاحه ، وقال عنه مؤرخ الإسلام الذهبي : كان مسلمة أولى بالخلافة من إخوته . وليست العبرة بالمناصب والمراتب ، ولكنها بالإرادة والعزيمة ، والإقدام ، وعمق التفكير ، وحسن الخلق .
وكانوا يلقبون مسلمة بلقب الجرادة الصفراء ، لأنه كان متحليا بالشجاعة والإقدام ، مع الرأي والدهاء ؛ ومع أنه تولى إمارة أذربيجان وأرمينية أكثر من مرة وإمارة العراقين (العبر ج1ص154 ) ظل يواصل الجهاد ، ويتابع المعارك ، منذ تولى والده الخلافة سنة خمس وستين وظل مسلمة على هذه الروح البطولية حتى لحق بربه سنة إحدى وعشرين ومائة .
وهذه إشارات سريعة إلى سلسلة المعارك التي خاضها :
* في سنة ست وثمانين غزا مسلمة أرض الروم . وفي سنة سبع وثمانين غزا أرض الروم ، ومعه يزيد بن جبير ، فلقي الروم في عدد كثير بسوسنة من ناحية المصيصة ، ولاقى فيها ميمونا الجرجماني ، ومع مسلمة نحو من ألف مقاتل من أهل أنطاكية عند طوانة ، فقتل منهم بشرا كثيرا ، وفتح الله على يديه حصونا .
*وفي سنة ثمان وثمانين فتح مسلمة حصنا من حصون الروم تسمى طوانة ، في شهر جمادى الآخرة ، وشتوا بها ، وكان على الجيش مسلمة والعباس بن الوليد بن عبد الملك ، وهزم المسلمون أعداءهم ، ويروى أن العباس قال لبعض من معه : أين أهل القرآن الذين يريدون الجنة ، فقال له : نادهم يأتوك . فنادى العباس : يا أهل القرآن . فأقبلوا جميعا ، فهزم الله أعداءهم .
*وفي سنة ثمان وثمانين أيضا غزا مسلمة الروم مرة أخرى ، ففتح ثلاثة حصون ، هي حصن قسطنطينية وحصن غزالة ، وحصن الأخرم (انظر تاريخ الطبري، ج6 ص426 ، 429 ، 434 ، 436 على التوالي ). *وفي سنة تسع وثمانين غزا مسلمة أرض الروم مرة أخرى ، حيث فتح حصن سورية ، وقصد عمورية ، فوافق بها للروم جمعا كثيرا ، فهزمهم الله ، وافتتح هرقلة وقمودية .
*وفي سنة تسع وثمانين أيضا غزا مسلمة الترك ، حتى بلغ الباب من ناحية أذربيجان ، ففتح حصونا ومدائن هناك .
*وفي سنة اثنتين وتسعين غزا مسلمة ، ومع عمر بن الوليد ، أرض الروم ، ففتح الله على يدي مسلمة ثلاثة حصون ، وجلا أهل سوسنة إلى جوف أرض الروم .
*وفي سنة ثلاث وتسعين غزا مسلمة أرض الروم ، فافتتح ماسة ، وحصن الحديد ، وغزالة ، وبرجمة من ناحية ملطية( تاريخ الطبري ج 6 ص439وص441وص469 على التوالي ).
*وفي سنة ست وتسعين غزا مسلمة أرض الروم صيفا ، وفتح حصنا يقال له : حصن عوف .
*وفي سنة سبع وتسعين غزا مسلمة أرض الروم ، وفتح الحصن الذي كان قد فتحه الوضاح صاحب الوضاحية .
*وفي سنة ثمان وتسعين حاصر مسلمة القسطنطينية ، وطال الحصار ، واحتمل الجنود في ذلك متاعب شديدة .
*وفي سنة ثمان ومائة غزا مسلمة الروم حتى بلغ قيسارية وفتحها .
*وفي سنة تسع ومائة غزا الترك والسند ، وولاه أخوه يزيد بن عبد الملك إمارة العراقيين ثم أرمينية .
*وفي سنة عشر ومائة غزا مسلمة الترك ، وظل يجاهد شهرا في مطر شديد حتى نصره الله (تاريخ الطبري ج7 ص43 و 54 ) .
*وفي سنة عشر ومائة أيضا قاتل مسلمة ملك الترك الأعظم خاقان ، حيث زحف إلى مسلمة في جموع عظيمة فتوافقوا نحوا من شهر ، ثم هزم الله خاقان زمن الشتاء ، ورجع مسلمة سالما غانما ، فسلك على مسلك ذي القرنين في رجوعه إلى الشام ، وتسمى هذه الغزوة غزاة الطين ، وذلك أنهم سلكوا على مفارق ومواضع غرق فيها دواب كثيرة ، وتوحل فيها خلق كثير ، فما نجوا حتى قاسوا شدائد وأهوالا صعابا وشدائد عظاما (البداية والنهاية : ج9 ص 259 ).
*وفي سنة ثلاث عشرة غزا مسلمة بلاد خاقان ، وبث فيها الجيوش ، وفتح مدائن وحصونا ، وقتل منهم وأسر ودان لمسلمة من كان وراء جبال بلنجر (تاريخ الطبري ج 7 ص 88 ).
*وفي سنة ثلاث عشرة أيضا توغل مسلمة في بلاد الترك ، فقتل منهم خلقا كثيرا ، ودانت له تلك الممالك من ناحية بلنجر وأعمالها (البداية والنهاية ج9 ص304 ) .
*وفي سنة إحدى وعشرين ومائة غزا مسلمة الروم ، ففتح حصن مطامير ( البداية ج9 ص326 ) .
أرأيت . . . إنها سلسلة طويلة من المعارك والغزوات والحروب ، وإنها لسلسلة كثيرة الحلقات ، وكأنما نذر مسلمة نفسه للجهاد والقتال ، واتخذ مسكنه في ساحات الكفاح والنضال ، ومع ذلك كان عالما محدثا ، روى الحديث عن خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز ، وروى عنه الأحاديث جماعة منهم : عبد الملك بن أبي عثمان ، وعبد الله بن قرعة ، وعيينة والد سفيان بن عيينة ، وابن أبي عمران ، ومعاوية بن خديج ، ويحيي بن يحيي الغساني . (البداية والنهاية ج9 ص328 ).
ويظهر أن اتصال مسلمة بن عبد الملك بالحاكم العادل ، المخلص الأمين ، خامس الراشدين عمر بن عبد العزيز كان من أقوى الأسباب في تكوين شخصية مسلمة ، تكوينا باهرا رائعا ؛ لأني أومن بأن عمر بن عبد العزيز كان رجلا تتمثل فيه نفحات إلهية من الخير والبر والتوفيق ، وأن الذين اتصلوا به وأخذوا عنه واقتبسوا منه هداهم الله ، ووهبهم توفيقا ورشادا ، ولعل مسلمة قد عبر عن شيء من هذا القبيل حينما دخل على عمر بن عبد العزيز وهو في ساعاته الأخيرة فقال له في تأثر عميق بليغ : جزاك الله يا أمير المؤمنين عنا خيرا ، فقد ألنت لنا قلوبا كانت قاسية ، وجعلت لنا في الصالحين ذكرا . (العقد الفريد ج3 ص183 ) .
وهذه عبارة تدل على أن ملامح من شخصية مسلمة كان الفضل فيها لخامس الراشدين رضوان الله تبارك وتعالى عليه .
يتبع